حوار في مجلة اليمامة



يرى أن يكون الشاعر ماكرا في لغته...
محمد خضر : على الناقد ألا ينتظر ما يلائم نظرياته التي يؤمن بها.
 23/11/2023

- كتب محيي الدين علي

لايستنكف الشاعر السعودي محمد خضر عن الإشارة الى «مبادرات أطلقتها وزارة الثقافة لمد الجسور، والتعريف بأدبنا وتطور الذائقة والوعي الثقافي والإنساني، أذكر على سبيل المثال: فكرة سحابة، وهي فكرة تتيح للناس في الأماكن العامة، وعبر جهاز الكتروني أن يختاروا نصًا للاستماع أو القراءة».
ولعله هنا يحيل في السياق إلى واقع مبادرات أخرى كالتي نشهد أثرها وحضورها في ظل ما أطلق عليه (عام الشعر العربي)، وتبني جهات أخرى القوافل الشعرية والثقافية التي تسهم من خلالها قصائد الشعراء في ملامسة الوجع الفلسطيني، وغير ذلك مما يطرحه في هذا الحوار حول علاقة النقد بالتجربة والصورة كما في كتابه « تحميض» وعن» مستقبل الشعر والعلاقة بالزمن والكينونة.

 - كيف تقوم علاقتك بالنقد المصاحب للتجربة كتصور فني للعالم؟
* دعني أقول: من المهم أن يمضي الشاعر مبتكرًا، وحرًا، وقناصًا، وماكرًا في لغته، ومنقلباً حتى على كينونته، وبلا حد في التجريب والشغف في البحث عن أمكنة جديدة، كل ذلك وأكثر بعيدًا عن عين الناقد، وعن حساباته، وعن سلطته أو وصايته.. ثم سيجيئ دور النقد مع ناقد نابه ومختلف، لابد وأنه سيتوقف أمام منجز يأخذه إلى ما يضيف إليه معرفيًا وفنيًا، ويكشف ويتساءل ويرصد قيمته. وعلى المبدع ألا ينتظر شيئًا عن أعماله، وعلى الناقد كذلك ألا ينتظر ما يلائم أفكاره أو نظرياته التي يؤمن بها، بل يغامر ويواكب ويحاول اللحاق بالنص وليس العكس.
- هل يشهد الأدب تراجعا، من وجهة نظر تجارية، ولا أقول «حضورا» وما مدى انحسار دور النقد، وهل يفتقر الناقد إلى النزاهة لجهة الرؤية وموضوعية التناول؟
* نشهد اليوم على ذلك الحضور الكبير للرواية وتراجعًا ملحوظًا في أجناس الأدب الأخرى، وأعتقد أن ذلك يعود إلى أن الرواية تستطيع في كل مرة أن تطور نفسها وتمضي نحو خلاصاتها بأساليب مختلفة وتجريب مستمر، حيث لا ذاكرة، ولا مرجعيات فنية صارمة تحدها، كما يحدث في الشعر العربي الذي يجئ محملاً بإرث يثقل خطاه غالباً إلا مع الشعراء الذين يحاولون كتابته بشكل جديد، الفرق في رأيي هو فرق ثقافي يختص بجذور كلا الفنين. بين ماهو قابل للتحول حتى في المفهوم، ودون حراسة مشددة عليه -كالمسرح أيضًا و كالقصة - وبين ما يحتجز داخل منظومة من المسلمات الفنية تعول على جذورها أكثر من مستقبلها، وهذا ما يحدث مع الشعر العربي خاصة.
- ما دمنا، والحديث حول « مستقبل الشعر»، ما هي اذا رؤيتك كشاعر، وما مدى صحة اقتران الشعر بالمستقبل، وهل استطاع الشعر عبر اللغة أن يؤسس لهوية تمثل الاختلاف لا التشابه؟
* مستقبل الشعر لا يصنعه سوى شاعر قادر على قراءة ومواكبة الجديد من أسئلة الحياة، شاعر اللغة التي تتجاوز النمطي والمألوف والمتوقع والدرس الشعري في الذاكرة، إلى خلق مسافة واعية مع ذلك الإرث الذي يجثم بقوة على التعبير، وعلى حس المغامرة وعلى لغة اليوم، وإلى مواكبة ما يحدث في عالمنا اليوم والوعي بالمتغير والجديد الذي أخذ من القصيدة كثيرًا.
أتساءل ما الذي تبقى للشاعر في ظل ما نشهده من تحولات وتغيرات جذرية في عالم التكنلوجي والاتصالات والرقمي، والفوتوغرافي، والسينما، والفنون البصرية، والميديا، أظن أن كل هذا أخذ من الشعر كثيرًا مما كان يعتد به في أزمنة مضت، وأي رهان ومساحة تبقت لشاعر اليوم، خاصة ذلك الشاعر الذي يريد أن يقدم جديدًا أو إضافة حقيقية؟ هل هو رهان الجمالي واللغة وإتقان الدرس الشعري والإلهام؟ المستقبل في فهم علاقتنا بالزمن والكينونة.
ولنقرأ فيما يشبه المقاربة تجارب شعرية عربية توقفت عند حدود قضايا زمنها وهزيمتها، في قصائد تقريرية، أو ذات خطاب وشعارات تختص بزمن محدد، ولنقرأ في ذات الوقت شعريات مثل بودلير وفيسوافا شيمبوربسكا ونيرودا تجاوزت تلك الأزمة. أيهما يُقرأ اليوم؟ 
- ألا تتوجس من غياب الشعر كذائقة كمالية في العالم، وما حجم تأثير منظومات الاعلام على القصيدة كفن؟
* تقديم صورة غير مكتملة أو غير مسؤولة أو نمطية عن الشعر إعلاميا، هو ما نشاهده اليوم في عالمنا العربي، ومع أن المحاولات تسهم بين فترة وأخرى في رفع حالة الشعر الجماهيرية، ووضعه على كرسي المتعة والفرجة إلا أن النمطية ظلت حاضرة، واللغة بعيدة عن لحظة اليوم، ذلك لأن الإعلام مسكون بلحظة غالبا تاريخية أو جماهيرية صرفة، يحقق من خلالها مطلوبات الناس، وما يرغبون، لكن دون أن يحاول صنع حالة تفاعلية مع جميع الفنون والتيارات الأدبية، ويشكل ذائقة مختلفة، بعكس ما نرى في بعض البلدان الغربية حيث يقرأ الشعر في كل مكان بأشكال مبتكرة ويصبح جزءًا من تفاعلهم اليومي، واحتفائهم.
مؤخرًا أعجبت بمبادرات أطلقتها وزارة الثقافة لمد هذه الجسور، والتعريف بأدبنا وتطور الذائقة والوعي الثقافي والإنساني، أذكر على سبيل المثال: فكرة سحابة، وهي فكرة تتيح للناس في الأماكن العامة وعبر جهاز الكتروني أن يختاروا نصًا للاستماع أو القراءة، أو فكرة «مسرح الشارع» الذي حظي بشعراء قدامى مثل عنترة، وامرئ القيس، وطرفة بن العبد، يقرأون قصائدهم في الأمكنة العامة.
- ما الذي يمثله الكتاب لك منذ إصدارك الشعري الأول وحتى اليوم، وما اكثر اللحظات التي تعيشها شغفا؟
* ظلَّت قصائد إصداري الأول «مؤقتاً تحت غيمة « صديقة كل المراحل، وروحياً ظلَّت الأقرب رغم أخطاء البدايات وحماسها وسذاجتها أحيانًا، كتبت فيها أفكاري، وطرحت أسئلة عن الكون والحياة والمعاش واليومي بحرية وانطلاق، وأكتب عنه الآن ككائن حي يتنفّس معي منذ صدورهِ، يعتلي غيمة جديدة؛ كناية عن الأشياء التي لا زالت قادرة على الحياة بقوة، لم تهدأ عاصفة هذا الكتاب منذ صدوره، ‏عاصفة أبطالها، مَن أحبوه بتطرف، ومَن هاجموه بتطرف، ومن اعتقلوه بذهنيات متشددة، ومن وجدوا فيه شيئًا مختلفًا، أتذكرُ أحداث أمسيتي الأولى وما واجهته من تعليقات عنيفة، التعليقات التي تجاوزت النَّص إلى الإتهامات الشخصية، ثم إلى الأحكام المتطرفة والمتشددة حول بعض القصائد. 
لم تكن تلك الحادثة مؤثرة برغم كل ذلك، لكنها فقط أعطتني انطباعاً غير جيد عن عالم الأدب الذي يضج بالمتطفلين، وسرعان ما نُشرت مقالة للراحل عبد العزيز المقالح، الشاعر اليمني المعروف، يتحدث فيه عن هذا الديوان عن فضاءاته ولغته، كان ذلك مدهشاً لي؛ خاصة وهو الشاعر الذي كنت أقرؤه في تلك العزلة ولا أعرف وقتها من هو تماماً؟
كان مقال المقالح وآخرين مصافحة لي بشعراء آخرين، ‏تشكلت معهم صداقة أدبية وإبداعية استمرت حتى اليوم.
أتذكر أيضا تلك القصائد التي كتبت رداً على قصيدة «مكنسة ونصف موج»، وهي قصائد وعظية وهجائية وتحمل حسَّا تهكمياً، هذه القصائد فتحت عيني على أسئلة الشعر من جديد وعن المفهوم السطحي الذي يحمله مثل هؤلاء عن الشعر، وأتذكر تلك المقالات والآراء المهمة التي كانت تقرأ القصائد بحياد ورؤية نقدية تلمس وتتقصى بعمق.
لكل قصيدة في هذا الديوان تشكلت حكاية مع مرور هذه الأعوام.. أغنية الآثام، الصبي الأسود، شمالاً بإتجاه امرأة، شاهد يقلم أظافره، ماتيسر من سيرة الحطب، الرياح التي لاتقال، بخور النافذة البعيدة، و»اغتياب»، وغيرها.
كذلك الحال مع « تحميض « الذي حاولت فيه كتابة ذاكرة جديدة للصورة، لكن عندما أكون أمام الصورة فأنا لا أعبر عنها، ولا أصفها ولا أعيد التقاطها من جديد.. ذلك ما تفعله الكاميرا، لكني هنا أستدعي من خلالها ما يمكن أن تمنح لقراءة ذاكرة أو قضية أو حتى شعور وإحساس ما.. الصورة بحد ذاتها ليست كل شيء في كتاب «تحميض».. أحياناً يكون ما وراء الصورة هو الأهم، أعتقد أن «تحميض» كله ليس معنياً بالصور بحد ذاتها، بل بالأثر، بالوخز، بما قد تمنحه الصورة من استدعاءات.
والحقيقة أن لكل كتاب حكايته الأثيرة، وذاكرته الجميلة، لعل الوقت يسمح لاحقًا بكتابة شيء أوسع، عن تلك التجارب وصداها.


 

تعليقات

الأكثر قراءة