مفهوم الاغتراب في نصوص محمد خضر الشعرية.
مفهوم الاغتراب في نصوص محمد خضر الشعرية.
حديث الكتب - كاظم الخليفة
يبرز الاغتراب في صورته الأكثر وضوحاً «انفصال الذات عن الواقع، وافتقاد الإحساس بالعلاقة بينهما» كموضوع شعري تتناوله القصيدة الحديثة مدفوعاً بهاجس موقع الذات من الوجود وخشية تلاشي قيمها وحضورها الفعلي في خضم التطورات الحضارية المادية، بعد أن أضافت هذا المحدد إلى مجمل مسائل الاغتراب الروحي الموغلة في القدم منذ عهد ما قبل سقراط.
فانفصال الإنسان المعاصر عن بيئته الطبيعية البسيطة ومشاركة أشياؤه التي صنعها بفعل تقدمه التقني والعلمي واحاطتها بكل جوانب حياته، انعكست سلباً على روحه كغول صنعه بيده ثم ارتد عليه ليفترسه. ولعل بيل جوي - أحد عباقرة التكنلوجيا- لم يكن مبالغا في توصيفه للخطر القادم الذي يتهدد كينونة الإنسان بتطور ثلاثة حقول علمية في المستقبل القريب وهي: »علم الوراثة والروبوتات وتكنولوجيا النانو».
وما يهمنا في هذه المقدمة هو التمهيد للولوج إلى عالم القصيدة المعاصرة واستكشاف أفق المعنى وطريقة التعبير الشعري عن هذا الهاجس الملح – أي الاغتراب - في أحد نماذج الشعرية الحديثة كمجموعة الشاعر محمد خضر الأخيرة «فراغ في طابور طويل».
فالشاعر في نصوصه الاغترابية لا يبالغ في التمهيد والتدرج في إيصال المعنى، بل يقحم قارئه مباشرة في أتونها؛ بدءا بالعنوان وانتهاء بآخر جملة شعرية؛ كنص “حجارة” الذي يصف فيه مقدار تشيؤ الإنسان المعاصر وانحسار إحساسه بآدميته: «هذه المدينةُ / تمنحك كل شيءٍ دفعة واحدة / ثم تسترد كلَّ شيء بالأقساطِ المريحةِ / ثم تفهم أن ذلك ممنهجاً / وأنك ضمنَ خطةٍ مدروسةٍ بعنايةٍ / كي تتحول إلى آلة..».
ولفقدان زمام المبادرة وحرية الإرادة التي تقلصت بشكل سافر عند الارتباط بمنظومة الحياة المعاصرة وأعمالها وفق محددات وأنظمة تقرض كثيراً من مساحة الذات مقابل شعورها بالحرية وفردانية الاختيار؛ وهي أول المخاطر المؤذية التي يسردها النص. حينها؛ ينبغي على الفرد حتى ينصاع إلى أوامرها أن يقبل المضي وفق نسيجها ويتنازل عن جزء حيوي من ذاته البشرية: «ينبغي أن تكون حجارة أحياناً / أو يداً تزرع الالمنيوم / دخاناً يتصاعد من تكرارك / داخل أنبوبةٍ شاهقةٍ/ لها فوهة شرهة في تعاطيك..».
يرتد الشاعر ثانية في المقطع التالي على نفسه محاولاً تجميل القبيح والقبول به، بل حتى أنه يكسي الواقع المادي بعض صفات الطبيعة بعدما يئس من تغييره والانسجام معه. ولعل هذه إحدى حيل الكائن إزاء قلقه الوجودي وعدم رضاه، وأيضاً لعجزه عن التواصل مع واقعه، أو هو أحد الأعراض المرضية للاغتراب كما يراها إريك فروم وينعتها بالسلبية؛ وذلك عندما لا يرتبط الفرد بالعالم على نحو فعال، ومن ثم يشعر أنه بلا حول ولا قوة، وهذا الامتثال يبدو أنه الوسيلة الوحيدة لتجنب القلق الذي لا يطاق. الشاعر نراه وقد امتثل للواقع بقوله: «لغابة الأسمنت لغة شعرية أيضاً / النسائم ترتطم في جدران البيوت المتشابهة كالبيض / ترتطم وتندم على وجودها كنسمة! / النسائم تتذكر بحنين جارف / أيامها الجميلة / من شجرة إلى شجرة / ومن شال إلى شعرٍ غجري..».
لا يقف الشاعر عند هذا الحد فحسب، إنما يستمر في تعداد ما أحدثته الحياة المعاصرة من تغير وتبدل عندما اصطنعت لها أشكالها البديلة عن الطبيعة البكر التي احتضنته وتعايش مع مكونتها: «لوحات المتاجر ذات الإضاءات الساطعة / ذات الألوان الفاقعة والبريق / ذات العبارات الرنانة والمبالغ فيها / نجومك الجديدة / وسماؤك كل يوم..».
في ذلك الزمن الأول كان الإنسان منسجماً مع بيئته ويتشارك معها الوجود العيني والواقعي الغير مصطنع. يبادلها وتبادله الود والشعور بالحياة الواقعية؛ حينها: «كنت تشعر بشجرة ماتت / بوردة نبتت فجأة بين صخرتين / بطائر عائد من بلاد بعيدة / وتردد أغنية في انتظار المطر / كان ذلك يحدث قبل أن ترتديك الحجارة / كنت.. / والآن ثمة علامة تحذير لعمل صيانة للأسفلت / تشاهدها أكثر من مرآتك..».
وبعد وقوفنا على المقطع الأخير من هذا النص، ستتبادر لنا مقولة الناقد الأمريكي أ. أ. ريتشاردز عندما قدم الشعر بوصفه «وسيلة استرضاء حاذقة لفوضوية الوجود الحديث».
أما في النص الآخر للشاعر محمد خضر “استلاب”، فهو يمضي على نفس منوال نصه الأول وينوع على أوجه مفهوم الاغتراب ومن زاوية الأثر الثقافي الذي يتركه على الإنسان الحديث؛ من حيث التنميط والقولبة والاستلاب الروحي، والذي هو المعنى الرديف للاغتراب كمصطلح متداول أيضاً في الدراسات الاجتماعية والفلسفية. وهو الأثر الناتج عن تطور التقنية ووسائل الاتصال والإعلام كما يرصد ذلك هيربرت ماركوز ويعدها مهددات وجودية مؤذية غايتها «تنميط استهلاك الإنسان وتوجيه ثقافته نحو ثقافة معينة في عصر العولمة بحيث أصبحت تروج لنمط واحد من الحياة وتروج لنوع واحد من نمط المعيشة والجمال والعمل وبالتالي أصبح المتعاملين معها نسخة واحدة من بعض».
الشاعر هنا يفصح عن ذلك الأثر المترتب على العولمة ويثبت أن ماركوز كان مصيباً في تقييمه: «يفصِلون ثيابك / ربطة عنقك، كوفيتك، “غترتك” / وطريقة حلاقة ذقنك / مشيتك.. حزنك.. وفنجان قهوتك /كل ما يمكن أن تطاله أيديهم».
هكذا إذن هو الإنسان الحديث الذي أرادت له ظروفه المعاصرة ألا يكون ذاته في اختياراته التي يوجهها النمط الاستهلاكي الرأسمالي المعولم، لذا وبما أن مهمة الشعر «ليس تحرير للعاطفة، وإنما وسيلة للتخلص منها» كما يقول إليوت، فالشاعر هنا يرسم طريقة للخروج من مأزق الاستلاب على النحو التالي: «أنت أيها الطفل.. / عليك أن تعود سالماً إليكَ حين تكبر / لا تصدق صورتك القديمة / لا تصدق ما علقَ برأسك / و”النقش في الحجر”.. / إنها كذبة جاهزة / معدة لطابور طويل لا ينتهي / قم، وأنفضك جيداً / عد سالماً إليك..».
إذاً، الشاعر محمد خضر يسعى إلى مقاومة الشعور بالاغتراب من خلال العودة ثانية إلى الذات بعد أن يعي تلك الآثار السلبية التي فرضها إيقاع الحياة المعاصرة، ويحاول أن يعالج تناقضاتها من خلال الخيال الشعري وليس على مستوى الاستنتاج الاستدلالي أو الاستقرائي، كما يرى هربرت ريد عن مفهومه لطبيعة الشعر، ولذا يأتي نصه التالي وهو بعنوان “نتيجة” ليكشف لنا الشاعر مدى نجاح تجربته الوجودية مع حل مشكلة الاغتراب: «بعد أن انتهى الصباح بالتعادل السلبي/ بعد أخبار سريعة عن الجنوب والمطر / بعد دردشة طويلة عن الحب والحرب / ألف شباكي النظيفة / وأضعها كمخدة لاستعادة حلم البارحة / سأحلم بشيء يليق بي / كأن أقوم بتأجير رأسي لطائر كان يقف كل يوم على حافة الشباك /وارجوه ألا يعود».
أخيراً، تسعى القصيدة الحديثة إلى التحرر من تجاذبات الواقع والمأمول من خلال الاشتباك مع مثيرات القلق الوجودي ومواجهتها بالقول الشعري الذي يعتبره والتر ستيس منافساً للفلسفة والتصوف في تحليل الظواهر ومعالجتها.
مجلة اليمامة
25/05/2023
تعليقات
إرسال تعليق