صنعة لطافة ..محمد خضر عندما لا يدعي في ما رمى إليه فلسفة ..

 


حسين محمد بافقيه 



أعترف أنه ليس يسيرًا علي أن أكتب عن قصيدة النثر ، وربما أعيد شيئًا من ذلك إلى أن أذني تربت على أنغام تضرب في عمق التاريخ . لكن الذي أحققه أن هذا الصنف من الأدب حال أصحابه بينه

 وبين الناس ، ولا أنكر أن ألوانًا من الغموض والإبهام اعتورت قدرًا  كبيرًا من قصيدة النثر فلم أستطع أن أجوز إلى مقاصدها ، ووقف بيني وبينها جدار من الألغاز عسر عليّ ، ولم أهتد إليها ، وكان من غاية روادها أنيعتصموا بالتعمية ، ولعلهم أرادوا لما ينشئون أن  

يجتهد القراء في بلوغ غايته ، فالأدب كله عسر ، عسير حين تنشئه ، وعسير حين تقرأه ،وزاد من صعوبة التهدي إليه لغة قوامها 

استعارات بالغة الجدة ، 

لا تلين للفهم، وما حمل أولئك الشعراء الرواد على ذلك إلا  إيمانهم أن لا أدب إلا ما سبك في لغة تباين معهود الكلام ، وعندهم أن ذلك

 لايتحقق بما سوى نظم لغوي جديد تتناكر فيه الكلمات ، وتتخالف فيه التراكيب

نقرأ لدي ادونيس وطبقته شيئا من هذا ونقرأ لدى شعراء آخرين 

ماظنوا فيه أن  قصيدة النثر ليست إلا  أن تكتب أي كلام لا تستقيم له قاعدة ولا يتهدى  فيه إلى معنى وعسى أن يكون لهذا الضرب من الإنشاء ما عد حاجزًا بين القارئ والقصيدة ، لكن هذه القصيدة 

اقتربت بعضالقرب من القراء ، فجعلوا  يقبلون على أمثلة منها جيدة مما أنشأه جمهرة من الشعراء ، أبرزهم محمد الماغوط وفي قصائده نقد حاد ونقمة،وفيها سخر وتعرية وفيها ضرب من الشعرية يقوم 

على الدهش واللفتة الذكيه الماهرة . 


-٢-

ليس في ديوان "منذ أول تفاحة " للشاعر محمد خضر شيء من ذلك، لا يحول بيننا وبينه غموض ولا تعميه، ولا يسوق أبياته ،وعباراته إنشئت، مدلًا ،  ولا يدعي الشاعر في ما رمى  إليه فلسفة ، انه لا يقول ذلك ، ولم احس في ديوانه وهو صغير لطيف ما يدفع بقاري مثلي 

درج في كنف  القصيدة العربية القديمة ،بعيدًا من جوائه، بل كان 

قريبًا حبيبًا وأستطيع أن أعد قصيدتيه الأوليين، نموذجًا على قرب

 ما بين هذاالشعر  وبين متلقيه،على اختلاف حظوظهم  في القراءة  والفهم فالقصيدتان والديوان برأسه ، يسير الفهم، قريب المأتى . 

أحسست ذلك في ديوانه ، أحسست ما أنطوى عليه من جمال وربما 

لا تواتيك أبواب البلاغة والنقد، على مألوفهما ، لو أردت تفسير 

ماداخلك من إحساس بذلك الجمال، وليس لي إلا أن أحاول وأجتهد . 

في اللهجة المصرية عبارة بديعة يظهر بها المصريون مبلغ إعجابهم بالمهارة الفنية في الصنائع ونحوها فيقولون المسأله ذي فيها

 "صنعة لطافة" 

ومقصدهم أنها وأن ظهرت قريبة حبيبة فسرها الباتع  إنما هو في 

تلك اليد الماهرة الصناع ، تخلبك بمهارتها  وتهديها إلى دقائق

 لا تحسهاالا إذا تأملتها

محمد خضر عنده "صنعة لطافة "يشدك ديوانه وتدرك أن فيه شيئا يصل ما بينك وبينه ، لك أن تدعوه شعرًا  او نثرًا . 

وأقرب الظن أن محمد خضر لا تعنيه تلك العناوين الناتئة فالرجل  لم يصنف ما أنشأه تحت أي نوع من أنواع الأدب و إننا نقرأ عبارة

 " منذ أول تفاحة " من دون أن نظهر في الغلاف على نسب للكتاب في الشعر أو النثر

نعم صنفت المكتبة الوطنية الكتاب فجعلته شعرًا ،

والقارئ يعرف محمد خضر شاعرا ، ويعرف له تخصصه في

 "قصيدة النثر"  لكن ربما  بدا  له أن

 يتحرر من سطوة العنوان ، وأن يبلغ غايته التي هدف إليها،  بتلك

 القدرة التي دعوتها " صنعة لطافة" ، وأنت تعرف أن اللطيف فيه تلك الدقائق التي تحتاج إلى صنعة ومهارة

قصيدتا " الحرية" و " وصورة العائلة "  أقرب قصائد الديوان إليّ ، 

ولا استبعد أنهما قريبة إلى كل من يقرأ ذلك الديوان ومكمن قربها

 إلى قلبي موضوعهما الإنساني اليسير : فراشة برحت عالمها

 الواسع الفسيح ، فأظلتها غرفة سقفها سماء ، وحديقتها تلك 

الاصوات المنبعثة  من التلفاز ، وتخدعها عن نفسها شجيرات

 بلاستيكية لم تعصمها من الانتحار ، إنها حالة شعرية بناؤها

 الدهشة واقتناص لحظة ما وتحويلها إلى شعر . 

وفي "صورة العائلة "ربما كمنت الشعرية في تذكر تلك الصورة 

العائلية القديمة التي تضم في لحظة حبيبة من الزمان أمًا وأبناءها وبناتها ،ولعلهم لم يعرفوا  الآلة المصورة من قبل، أنا ألفيت في هذه

 القصيدة الحبيبة صورة أخرى تشبهها ، صورة تضم أمي وأخوتي بنين وبنات،أظهرتني الصورة دهشًا منبهرًا ، أحببنا تلك الصورة

 كما لم نحب صورة مثلها ، وحين كبرنا استنسخنا منها نسخًا ، 

وأحاطها كل واحد منا بإطار ، وكلما تقدم بنا العمر لذنا بها ، فتهبنا الدفء . 


  • ٣ - 


حين عرفها جمهرة من النقاد الشعر ، فعدوا منه قرب ما بينه وبين

 القارئ ، لم يغربوا في التعريف ، ربما حسبنا هذا التعريف 

متأثرًا بعض تأثر بالتعبيرية الرومنطيقية ، لكن هذا التعريف أحسست أثره  في نفسي كلما مضيت في قراءة هذا الديوان ، إن صاحبه مد ما بيننا وبينهمن علائق بـ " صنعة  لطافة" 


جريدة الحياة - ٢٠١٤ 

حسين محمد بافقيه 

تعليقات

الأكثر قراءة