قراءة في ديوان ” محمد خضر ” المشي بنصف سعادة
قراءة في ديوان ” محمد خضر ” المشي بنصف سعادة
قراءة : عماد العمران
لعل أول ما يلفت النظر في مجموعة الشاعر محمد خضر الأخيرة “المشي بنصف سعادة” هو صورة الغلاف التي انتخبها الشاعر للمجموعة، إذ ستبدو -للوهلة الأولى- أنها مجرد صورة لإشارة مرورية تحذيرية. ولكن بقليل من التمعن سنكتشف أن الصورة داخل المثلث التحذيري هي لشخصين، ربما حبيبين، يمشيان متلازمين في إشارة إلى أن ما نحن بصدد الاطلاع عليه ليس في حقيقته كما يبدو سعادة كاملة. هناك ما يبعث على الفضول والإثارة لاكتشاف تلك الأشياء الصغيرة والتراكمات في نسيج الصور التي ستصهر ذاكرة الشاعر وتتيح لنا التماس معها في سياق قراءتنا لهذه المجموعة. فلوحة الغلاف التي عمل على تنفيذها الفنان أشرف فياض تشي بحرص الشاعر على الشكل الذي سيقدم به نفسه وتجربته للآخر.
وكمدخل لهذه القراءة لابد أن أشير إلى أن المتتبع لتجربة الشاعر سيدرك مباشرة أن مجموعة “المشي بنصف سعادة” هي امتداد طبيعي ومولود شرعي لتجربة “صندوق أقل من الضياع”، حتى إن عنوان المجموعة الأخيرة ورد في أحد نصوص “الصندوق” في نص بعنوان “امرأة لم تذكر برجها” حيث يقول:
لعابر لم يكن يقصد
شيئا سوى
التسكع في الحديقة
والمشي بنصف سعادة
أحيانا
ثمة تقارب والتصاق بين هذا الإصدار وسابقه حيث صدرا بالتوالي بين عامي 2006 و2007. وهذا التقارب الزمني سيلقي بظلاله على التجربتين كما يبدو جليا في تشابه روح بعض النصوص هنا وهناك كما في نص (سيرة الولد) في “صندوق أقل من الضياع” ونص (خمسة مقاطع من سيرة الولد) في “المشي بنصف سعادة”.
محمد خضر مغامر في صناعته الشعرية، تمكن من أن يؤاخي بين واقعية الطرح وبساطة التركيب، بلغة حديثة ورؤية تتحرك ضمن صور المُعاش اليومي. هو روح انفلتت من براثن اللغة وطارت إلى خيال سيتذكر من خلاله طفولته ونساءه ومغامراته وتفاصيل أخرى تنفرج عنها طاقته الإبداعية في نسيجها الأبسط، وتثبت قدرته على الانفلات والتجاوز والإضافة التأسيسية. تلك الإضافة التي تنبئ عن وعي حاد أفاد كثيرا في إنضاج مفرداته وتكثيف دلالاتها. يقول في آخر نص في المجموعة:
(شكرا للذكريات الـ غطت قلبي
بالأوراق والصور..
وتركتني وحيدا في كتب نيتشه
…
شكرا للمعجبات الصغيرات
اللواتي لم يتركن أثرا للقلب أصلا)
إن أكثر ما يميز هذا الشاعر أن القارئ لنصوصه لن يستطيع أن يحدد حالته النفسية لحظة الكتابة، ما إذا كان فرحا أم حزينا، مرتاحا أم قلقا، هادئا أم عصبيا، مسالما أم ثائرا، في إشارة إلى حث القارئ على ملاحقة التجربة التي يخلقها له ويستدرجه إليها ناثرا بذلك عليه عالما خاصا من المتعة والنشوة بلغة متفردة ورؤية حديثة جدا، فهو يكتب ملامحه وأسراره دون غموض أو توتر، تاركا خلفه ظلا مجهولا نتعرف من خلاله على تقاسيمه وآلياته التحريضية في رحلته للكتابة.
ليس هنالك من أساطير في مجموعة “المشي بنصف سعادة”، بل رموز بدلالاتها الإنسانية الحديثة تتضح في نصوص كثيرة منها “ماسنجري / LURBAK / تلامس / المتحول” حيث تتحول الدلائل من مجرد ممارس يومي إلى نص محوري يشكل ذات الشاعر، فألفاظ مثل (قناة فوكس / paltalk / موبايلي… إلخ)، وهي ألفاظ ليس لها علاقة بما ورائيات الفكر بقدر ما تفيض في وجدان الشاعر محمد فتتطابق بذلك أحاسيسه العميقة وصوره المتناغمة وروح العصر. وهذا يقودنا إلى القول إن نصوص المجموعة -وإن كانت لا تخلو من مزاجية شفافة- منفلتة إلى حد ما من كل الأيديولوجيات التي ينتمي لها الشاعر، فهي تتلون بالإدهاش والانسياب والأحلام المتداعية كبنى تتخطى الذاكرة الجمعية إلى فضاء أعلى يجد الشاعر فيه نفسه متناغما مع واقعه كما هو بكل تفاصيله المتناقضة أحيانا، فاتحا قنوات رموزه على كل الاحتمالات.
(ما تسميه حلما يطير في رجفة الهواء
ما تسميه يقظة الحس وابتكار الأمل
تأخذك الغربة للكلام والتعب…
تنسى أن الذاكرة عذرنا الوحيد
لنمارس المشي في وقت متأخر…)
يشعر القارئ بسلاسة وهو يتقدم في قراءة المجموعة متأرجحا ما بين النصوص والصور التي ترسمها هذه النصوص. غير أن هذه السلاسة سرعان ما تتبدد وتتحول إلى أسئلة حول ما وراء النصوص وحول ديناميكية عناصرها وتداخلاتها مع ما هو طبيعي ومحسوس. إن هذه الحركة الدائمة في نصوص المجموعة تحول الشعر من كونه بوحا إلى كونه اكتشافا أو إعادة اكتشاف لتكوين الشاعر الفكري والفني.
لقد ارتكزت هذه المجموعة على السرد والحدث الشعريين، وهي ثيمة انتصرت فيها المخيلة على بساطة الفكرة والصورة. نجد ذلك جليا في معظم نصوص المجموعة مثل (المومس توما / خطيئة / الحقيقة والحلم / كأننا لم نكبر / التشكيليون ينامون مبكرا) وغيرها من النصوص التي يبدو تأثر الشاعر فيها بالشعر الغربي الحديث، غير أن أحداث النصوص الشعرية تنساب بتناغم وشفافية تغطي على سرديتها، فينتشي خلالها المتلقي/ القارئ. كذلك فإن مكابدات الشاعر ومشاهداته اليومية فرضت عليه إقحام أسماء لمشاهير وعناوين لأفلام غربية مثل (فيلم العودة متأخرا/ كاثرين زيتا جونز/ جينفير لوف هوييت/ ماجدة الرومي/ إلتون جون… إلخ)، وربما كان سياق النصوص هو الذي فرض إيراد هذه الأسماء والعناوين فيها دون أن يشوه ذلك نسق النصوص وإيقاعها لأنها (أي الأسماء والعناوين) -ببساطة- مألوفة لدى المتلقي.
هكذا يترك الشاعر مجموعته الأخيرة بنصوصها الثلاثين، قابلة للتشكل مع كل قراءة ممكنة بغية ممارسة الخلق وإنشاء مدارات جديدة ومغايرة محاولا بذلك إخراج الشعر عن كل انتماءاته وقواعده وقياساته المسلم بها. هكذا يقدم لنا الشاعر تجربته عاكسا أفق الحلم على ارتعاشاته، هاربا من بوتقة المحدود إلى فضاءات الإبداع.
جريدة الوطن
تعليقات
إرسال تعليق