الحياة أيضا ليست في كل مكان – فاطمة عبدالله
يمسكنا الكاتب السعودي محمد خضر من جغرافيتنا ويحجّ بنا الىالمملكة. لا يختار الأماكن المترفة حيث يُرمى ما يفيض عن مناسف الأرزّفي القمامة ويُقهَر الحرّ الشديد بمكيفات الهواء، بل يختار إربة، تلكالبادية التائهة عن المكان حيث الحياة امتداد للعبث. في روايته “السماءليست في كل مكان” (الدار العربية للعلوم ناشرون– نادي المدينة المنورةالأدبي) نلتهم التهميش حتى التعفّن.
سُلَّمٌ بمليون درجة من التيه يرتفع أمامنا لنتسلقه كي نصل الى مقاصدالمعاني. اللغة لا تشاء مساعدتنا، بل تختار ان تتضخّم بالترميز لتتواطأمع الكاتب على صبرنا. تطلّ الخرافات والأساطير برأسها المنتفخ منبين السلالم، فتصاب بالوهن حتى تكاد تتفكك.
عالمٌ مليء بالمشردين والتائهين يمتثل باسطاً ذراعيه المترهلتين. عبرشخصية أبو عديس الغارقة في الغموض نتوصل الى ان الفراغ ليسوحده المسؤول عن اكتشافات الانسان وابتكاراته، بل الحاجة في غالبيةالأوقات تجعله يخلق سعادته ولو من خيال دام. يختار الكاتب لتلكالشخصية حياة الفقر والجهل واللاجدوى حيث الموت البطيء يمدّ لسانهالقذر للكائنات المسحوقة.
انسان يختصر ملايين البشر من الذين يمضغهم الوهم بأضراسواقعيتهم المنخورة. ضحكة مليئة بالحزن. حنين وشوق وفقد يبحث عنمكان يرمي عليه ثقل الروح وتعب الجسد. قلقٌ شهي بلا إرادة ولا طريق،هو أبو عديس. يتيه طويلاً في ظروف غامضة قبل ان يحط رحاله في“إربة“، البادية. لا يكتفي الكاتب بالغبار الذي يغطي هذه الشخصية،فالعيش على هامش الحياة ليس غباراً فقط، بل غرق كذلك. يختار للغرقامرأة ابتلع السيل أهلها لتضعها اللحظات المنسوجة من حزن وكدرعظيمين أمام أيام تخشى ظلمة التابوت. زيانة تحضر في الرواية مثلالهمّ. تشبهه كثيراً باستبدالها الجراحات بجراحات أخرى. تُتهَم بالعهروالفجور عندما تخرج وسط رعب الكارثة من دون عباءة كي تتوسلبالسيل ان يرأف بجسدي والديها وهو يبتلعهما. يستفزنا الكاتب بهذاالمشهد المؤلم لواقع المرأة في المملكة والعالم العربي المتشدد بقيود مايُسمّى العادات والتقاليد.
ليست مصادفة ان تكون المرأة في الرواية مقهورة الى حد الهرم. فزيانةالتي حُبست في حجر مظلم ظلت طوال حياتها تتنقل بين الأماكنوتتعرض للبصق لأنها نكرة. تتنقّب كي لا يُفتضح أمرها، الى ان تهربمن بيت أبي عديس الذي ينقذها من الحبس، وتختفي بعدها الى الأبد. بملامح ربيع نسائي قد يشرق على شتاء المرأة العربية، يتعمّد الكاتبان يجعل نهايتها مفتوحة على كل الاحتمالات. لا يكتب لها الموت، ولاينتشلها من قذارة المجتمع ويغسلها ويلبسها الملابس النظيفة. بل يتركمصيرها رهن رياح التغيير الآتية لا محالة، ولو بعد حين.
عبر شخصية أبو عديس يكثّف الكاتب التهميش والتغريب في المكانوالانسان كأنهما واحد. في المملكة العربية السعودية أماكن توقف نموّهاعند قرون زمنية انقضت، فلم تتغير ولم تتبدل ولم تعرف تطوراً يستفزّالبديهة. عين الحكومة لا تبصر “الحشرات” على الأرض، فقد اعتادتالنظر الى فوق دائماً. الاعلام أيضاً يرى بعين الحكومة، يسمع بأذنها،ويكتب بقلمها، فأنّى لأحد ان يعرف ويلات الفقر وسط كثافة الصورالجاهزة التي نحملها عن دول النفط في أذهاننا؟ عن إربة نقرأ: “هيليست معادلة. انها اقتراح طويل المدى لمعترك الحياة. تلك المساحةالجرداء التي تلسعها الشمس من كل جهة، تتكون لحفاة يجمعونالحطب من زواياها، ويجمعون الحياة كما تريد لهم“.
لا ينفخ خضر الحياة في كل شخوص روايته. يتعمّد ان يترك بعضهاأصناماً تحدّق في الواقع بلا عينين. عذاب التهميش يخبل العيش ويتركالحياة تختنق من الضيق وهي لا تمارس من الأفعال سوى تلك الماضية. ينبت المشردون في تربة الفطريات هذه، وأيضاً أصحاب الوشم الذينتظاهروا في وضعه على سواعدهم إسوة بالحيوانات كي لا يتحقق لهمالانصهار في المجتمع. يصطدم الوهم بالخرافات وقصص الجان التيتحوم حول نبتة العُشرة السامة وتتحدث معها ليلاً مع هبوب الريح. يؤثرالكاتب السوداوية ليذكّر بالعالم الفقير المنبوذ المشرد المظلوم، الذييقتات من فضلات عيش تنعم به كائنات أخرى (هي)، تجوب أرواحهاالمكان بلا هوادة وتستعير الدهشة من مرارة الحياة كي يستمر الآخرون.
فاطمة عبددالله – جريدة النهار
تعليقات
إرسال تعليق