1 في تجربته السردية الأولى (السماء ليست في كل مكان) يقدم محمد خضر عملآ تمتزج فيه خطوط السرد بظلال الأسطورة والخرافة، رواية تفكك بنية الخوف والظلام عبر لغة شاعرية تصنع من أبسط التفاصيل ذروة الحكاية ووهج الحياة.
2 حين نفقد من نحب ليس لنا خيارآ إلا أن نموت أو نفقد طعام الحياة ونستسلم لليأس أو نعيش بجسد تبطش فيه أوجاع الفقد وأمراض الغياب. وهذا ماحصل تحديدآ مع (أبوعديس) حين رحلت (زيّانة) وغادرت أرضها (إربة) دون مقدمات. رحلت وتركت حكاية عشق فردوسية، وعاشقآ أنساها عذابات القيود وظلمات القرية.
3 على وقع هذه الحكاية بين أبوعديس وزيّانة يسبر خضر دهاليز وعوالم قرية تعيش خارج إطار الزمان والمكان بطقوسها السحرية الخاصة، ( “إربة” التي اعتاد أهلها على ضراوة الوجود وتقديس القسوة..لاتفصح عن أي أحلام ولاتلوح في فضاءاتها أي أمنيات)..إربة المنغلقة على حكايات الجن والثأر والجهل.
4 هذا المكان الخالي من كل مقومات الحياة الطبيعية يتحول جنة تحتضن أبوعديس الهارب من ذاكرة لاتتكشف عبر مسارات السرد، غير أنها ملأى بحرائق الأمس وهواجس الزمن الملتف على رقبته مثل حبل مشنقة، لم يتخلص منه إلا وهو يحرر (زيّانة) من قيود الظلم والعبودية.
5 لم تذنب (زيّانة)، ذنبها أنها فقدت عقلها وهي تسمع خبر موت اسرتها في انتفاضة سيل أهوج ولايرحم. خرجت في حالة مأساوية، لاتستر مصيبتها، مذعورة إلى الشارع، ليعاقبها عمها على حزنها وفجيعة الفقد بأن يقيد جسدها وأدميتها بسلاسل الخوف من الفضيحة!! (في إربة وحدها يكون الحزن عارآ وفضيحة).
6 لكن صوت أنين روحها وهي تكابد طغيان القرية وثقافة المرأة الخطيئة، في غرفة وحيدةبعيدة مكبلة بسلاسل عمها الذي لاوفاء له لأرواح أخيه وأسرته، لاوفاء ولا ولاء إلا لثقافة الجهل والطغيان،يتركها كتلة لحم كأنها شيئآ يجب التخلص والبراءة منه. صوت يخطف قلب أبوعديس ويستنهض مروءته وانسانيته
7 يقترب أبوعديس منها، من كائن أصبح هيكلآ عظميآ تنخر فيه المخاوف والظلمة وآلة الجهل والغدر، يحررها من القيد دون أن يعلم إنه يحرر ذاكرته من جحيم الأمس ومن سر يخنقه ولايقترب منه أحد، يحرر قيدها ويدخل حنين القلب والجنة، وتعود زيانة إلى روح تحميها من القلوب المعطوبة والألسن الساقطة.
8 على هذه الحكاية يؤسس خضر سردية تتجذر حمولاتها ومدلولاتها كتعرية لقبح النفس البشرية التي تتستر خلف القيم والتقاليد فيما تخفي في دواخلها وحوش بشرية ضارية تقدس ماجبلت عليه من أفكار ظلامية تمس المرأة والضعفاء من البشر كما تمثلوا في سياق السرد بهيئة (أصحاب الوشم) المسلوبي الإرادة.
9 ورغم أن الرواية تنطلق عبر سردية مجموعة معلمين جاءوا للعمل في مكان لاينتمي إلى أية ذاكرة ومازال خاليآ من أية خدمات توفر للإنسان حياة كريمة، أو حالة روحية تمهد للإستقرار، إلا أن انزياح السرد نحو تفاصيل المكان وكشف مخبوءاته يجعل الحكايات تتوالد مثلما يتناسل الخوف في هذا المكان.
10 المعلمون (المكاوي وميقات وناصر ومجيد) يسكنون في عمق القرية لكنهم منسلخون عنها تمامآ بجدلياتهم الفكرية حول السلفية والصوفية وأحداث 11 سبتمبر وتداعياتها، لكن لدغة عقرب خبيثة تذكرهم أنهم في إربة وإن حاولوا القفز على واقع بائس وتعيس، وأن للمكان عنفوانه وسطوته القاسية.
11 تتناسل الحكاية في فضاءات (إربة) إلا أن أبوعديس، الهارب من ذاكرة مثخنة بالأسرار والألم، ظل هو سيدها. جاء إلى مكان معتم بلاكهرباء، غير أنه وجد فيها نوره ونور قلبه (زيّانة) التي أثثت له المكان بالغنج ورائحة العشق ثم رحلت باحثة عن خلاصها في مدينة “رحبة الأفق” وحياة مختلفة.
12 نجحت الرواية في إنسنة التفاصيل البسيطة والحفر في جوهرها وتصويرها ضمن طقوس أسطورية فاتنة، ومن ثم تصعيدها إلى قمة السرد بلغة شاعرية تتراوح بين أمواج الأحلام ورؤى الواقع، حتى يتحول العمل إلى تحفة فنية جاهزة لتسريدها (سينمائيآ)، برؤية وأدوات مخرج مغامر ومتمرس على التجريب.
13 نجح محمد خضر في التحرر من تهمة الشعر، إذ قدم عملآ سرديآ يستحق التأمل، وقفز على فكرة القولبة والتنميط، عملآ يتأسس على طبقات من الوعي وحمولات حكائية مشبعة بالرؤى الإنسانية والقيمية، وتكريس صوت الخير والعدالة والحب في مواجهة بشاعة النفس البشرية وقبح السطح والمظهر
تعليقات
إرسال تعليق