مــتـى كــــان الـشـــــعـــر هـــــادئـــــاً هــــــكــذا..
صـــنــدوق أقـــل مـن الـضــــيــاع” لمـحــمــد خــضــر
مــتـى كــــان الـشـــــعـــر هـــــادئـــــاً هــــــكــذا..
محمد العشري-جريدة النهار
القاهرة
..
في السعودية ثمة أرواح شعرية هائمة، في بدايات تخلقها، تحوم حولبئر قصيدة النثر، وتحاول أن تندمج في الفلول الكثيرة، التي تطوفحولها، لتشرب من مائها الشعري الجديد، متخلصةً من إرث جامد،استوطن المكان وصحراءه لقرون عدة. أصوات شعرية قليلة ومتفرقة،اعتبرها البعض خارجة، ونعت شعراءها بأنهم “متآمرون على الثوابت“. من هؤلاء محمد خضر، علي الحازمي، طلال طويرقي، هليدا إسماعيل،هيا الشريف، محمد حبيبي، عبد الله ثابت، وعيد الخميسي. جميعهماستفادوا من فضاء الإنترنت لنشر تجاربهم، وبعضهم لجأ إلى خارجالمملكة لطباعة كتابه الشعري، مثل محمد خضر في ديوانه “صندوق أقلمن الضياع“، الصادر حديثاً لدى دار “فراديس للنشر والتوزيع” فيمملكة البحرين، بعدما أصدر ديوانه الأول “موقتاً تحت غيمة” لدى دار“أزمنة” في الأردن عام 2002.”صندوق” محمد خضر مليء بمفرداتاللغة الإلكترونية الجديدة، التي تقتحم مشاهداته، وتجاربه الحياتية،وتلونها بلون رمادي، وبصوت أحادي، متفرد في رؤية الآخر، والتعاملمعه حسياً. وإن بعدت المسافات، فالصندوق يقرّبها، ويحبسها فيالمكان الإفتراضي: “مرّة…/ حلمت لو أننا اثنان/ في هذه الأرضالرحبة/ نملأها بالأغاني والأمنيات/ بالسلام بيننا/ … لو أننا اثنانفقط/ ندخل حقل الذرة/ نجد حارسه تحوّل لفزاعة بحرية/ تطاردالوهم“.وإذ يرصد القارىء الحالة الشعورية الواضحة لدى محمد خضر،وأحلامه البسيطة مع محبوبته، يجد نوعاً من الإلتباس، والتداخلالفانتازي أو الخيال المجنح، في إطلالته على الكون: “السماء الملطخة/ بالعشب الأبيض/ يلتهمها/ قطيع أزرق/ لتنمو!”. لكن، سرعان ما يتخلصالشاعر من الخيال في قصيدة تالية، ليصبح واقعياً أكثر من الواقعنفسه، في رصده الشارع وحركة الحياة بعيداً عن صمته المتأمل: “القهوةتركتها حتى بردت!/ كان يغريني منظر الناس/ وهم يهتفون/ في مساءطويل كهذا“، لتستمر محاولات الشاعر في التجريب، والوقوف علىأساليب مختلفة في كتابة القصيدة، من دون أن ينتهي إلى إطارمحدد.ينبىء بعض القصائد بشاعر ينتمي إلى جيل من الشعراء غيرالمهمومين بما يحدث في العالم، رغم انفتاحه الإلكتروني على الحياةوالعالم، لكنه يبتعد عن ذلك، إختيارياً ربما، ليدور في مداره الداخلي،ينهل من ذاته، ويفرغها في مدارات الآخرين البعيدة والقريبة، كما فيقصيدة “الساعة الثانية عشرة“، معبّراً عن حالة العزلة، التي يفرضهاالمجمتع السعودي على ذاته الشاعرة: “لا نفهم كثيراً ما يقوله باباالفاتيكان/ ولسنا بصدد الثرثرة/ عن عُقدٍ ايديولوجية/ كل منا يحمل بريداًإلكترونياً/ ومع هذا لم يصل الحديث/ إلى هذه المنطقة“. تحتل تلك الرؤيةفي العزلة والاعتزال مكاناً بارزاً في صندوق الشاعر، ربما لأنه يكتبعن سيرة الولد العادي، أو الذي يبدو عادياً في كل شيء، ولا أثر لبيئتهفي لقطاته الشعرية، إذ يُخفي ذلك الأثر في مخيلته عامداً، أو يتخفىمنه، فيدفعه الى التخلص منه، والتمرد عليه، ومواراته: “الدروب تضللالمارة/ لتستيقظ الجغرافيا“.عبر العناوين الكثيرة المولدة للقصائد، يقفزسؤال في ذهن القارىء: متى كان الشعر هادئاً هكذا؟ خلف السؤاليغوص القارىء أكثر في الصندوق محاولاً تجنب الضياع، الذي أغرقالشاعر. فهل يريد محمد خضر أن يصل بقارئه إلى حالة السأم الكبير،الذي اختتم به كتابه الشعري، وأغلق به القفل على تجربته الحية: “السأم اللعين يرتب الملامح/ ملامح القادمين نحو الغواية/ دائماً كنتأقول اعتنوا بمظهركم الخارجي حتى تجدوا ما تعبثون به في أوقاتالسأم“؟ أم أن طبيعة اللقطة الشعرية، التي تتعامل مع الحياة، وتتفاعلمع الحب، من خلال شاشة زجاجية، تُعرض فقط، لكن من دون مشاركةحقيقية للمتفرج، وهي تفقد الشعر حرارته، وتدخله في منطقة البرودالعاطفي، رغم وهج القبلات المتبادلة عبر الأثير: “نترك الفلسفة جانباً/ نقبل بعضنا/ بهمجية“.ينثر محمد خضر بذور قصائده، في صحراءملتهبة، عطشى، ويفتح عليها الماء الشعري ليغمرها، من دون أن ينتبهالى الزوائد التي تخنق روح قصيدة النثر، مثل تكرار بعض المفردات،الذي يمنعها من الإنفجار في قلب القارىء، أو ربما هي طبيعةالصحراء، التي تتشرب الماء بشراهة، من دون أن تمنحه فرصة لشقّقناة صغيرة، يوزّع منها بمقدار. وهذا ما يدفعه لأن يطلق صرخته فيالنهاية، كأنه انتبه فجأةً، لما يجب أن يكون عليه: “نحن الذين كان لا بدأن نفعلها يوماً ونصرخ دون مبالاة صرختنا المثلى“……….
..
محمد العشري - جريدة النهار
تعليقات
إرسال تعليق