قصائد ترفع المهابة البلاغية عن اللغة - عابد إسماعيل
قصائد ترفع المهابة البلاغية عن اللغة
شعرية المفارقة وتعايش الأضداد
كتب : عابد إسماعيل
يسعي الشاعر السعودي محمد خضر إلي رفع المهابة البلاغية عن لغته الشعرية، عبر زجٌها في أتون اليومي والملموس، وشحن مفرداتها بإيقاع الواقع الراهن، المخترق لغويا وفكريا بمؤثرات خارجية، تفرز نمطا جديدا من علاقات سريعة، متبدٌلة، يستحضرها الشاعر في ديوانه (صندوق أقل من الضياع)، الصادر عن دار فراديس، في المنامة، (2006).
والشاعر يلجأ إلي مقاربة هذا التحول في العلاقات الإنسانية، عبر وصف تقلبات الذات الفردية التي تخوض صراعا ضدٌ قيم افتراضية تساهم في تشكيلها التكنولوجيا الحديثة، والثقافة الرقمية، والبصريات الحسٌية المتأتية من لغة الإنترنت والهاتف النقال، ومطاعم الوجبات السريعة. وقد عمد الشاعر إلي إقحام مفردات ومصطلحات أجنبية كثيرة في قصائده، للتدليل علي تشكٌل خطاب معرفي ولغوي مختلف، بدأ يعصف بالمسلمات القديمة، الراسخة. وقد جاء إقحام هذه المفردات طريفا، سلسا، مقوضا براءة الوقفة الميتافيزيقية التقليدية، ليقرٌب القصيدة من واقع مدني عنيد يتشكٌل بمنهجية وعناد تحت تأثير ثقافة طارئة تنتج بدورها علاقات معرفية وعاطفية مختلفة.
والشاعر خضر يرصد بدأب هذه الأجواء في أكثر من قصيدة، نابشا المفارقة المتولٌدة من صراع القديم والجديد، أو الأصل والشبيه. ولكي يعزٌز مساحة البياض، وينقل شعورا دفينا بعبثية الركون إلي معني مستقرٌ، يعمد إلي حذف جميع علامات الترقيم، حتي النقطة، مبقيا علي بعض علامات التعجٌب والاستفهام، لتبدو القصيدة مفتوحة علي اللانهاية، ومعلٌقة في فراغ يحاكي بياض الشاشة الإلكترونية. في قصيدة بعنوان (مع كلٌ هذا)، يبدأ الشاعر كلامه بوصف واقع ملموس، لا ضبابية فيه، وتبدأ القصيدة بداية سلسة، شفوية، تقترب من الكلام العادي، وإن ظلت الدلالة معلقة، غير مكتملة، مثل المكالمة الهاتفية المبتورة التي يصفها في قصيدته: مع أنكِ جرحتني آخر مرة/ في آخر تهاتفي بيننا/ عند السٌاعة الثالثة والنصف/ بعبارات بسيطة كشخبطة علي سبٌورة . ويصف الشاعر طقس الحبيبة المتقلٌب، راصدا مزاجها في الزمن الحديث المثقل بأشياء الحياة الراهنة، مثل تعلٌقها بصديقتها ذات الموبايل أو اللجوء إلي الانتحار مرتين لأجلي وممارسة السباحة في الصيف، والكسل في الشتاء، وإدمان المراسلة عبر البريد الإلكتروني، وغير ذلك. وفي هذا كلٌه يحرص خضر علي أن تظل قصيدته رشيقة، عفوية، لا تخلو من تجديد، ورغبة في تعميق الشعور بالمفارقة، عبر استخدام موارب لكاف التشبيه، وإحداث نوع من الخلخلة بين طرفي التشبيه: “ مع أنك كنتِ لئيمة كمرآة مشطوفة/ وضيٌقة كمناخ استوائي/ وعميقة كقنينة فيزياء . وتنفتح قصيدة الشاعر بجرأة علي التفاصيل اليومية، راصدة مفارقات اللحظة الراهنة، عبر السماح للملموس باختراق قداسة المجرٌد: لطالما حدٌثتجها عن البلكونة/ وعن أفلام الأكشن المصرية/ عن دفاتري وأقلامي وحجرة الكمبيوتر/ عن جاك ديريدا/ والإمام النفٌري .. هذا السير من الكتابي إلي الشفوي، ومن الأزلي إلي الزائل، يسهم في استحضار صورة متحركة للعالم المرئي، وإن كنا نري أن الواقع ذاته يتراجع وينسحب تحت وطأة الاستعارات، ليدخل في فلك الصورة البلاغية، حيث الأشياء ذاتها تتحول رموزا طارئة في عالمي رقمي متبدٌل. وعلي الرغم من محاولة إبراز الشٌفوي، والتمسٌك بشفافية الملموس، في أكثر من قصيدة، إلاٌ أننا نجد جملة خضر مثقلة برواسب البديع التقليدي، فهي تستفيد أحيانا من بلاغة مستقرٌة، وتميل إلي النحت اللفظي، وأحيانا تجنح باتجاه الغلو الإنشائي. هذا التأرجح يضفي إرباكا علي الأسلوب، ويبثٌ تفاوتا جماليا بين قصيدة وأخري. مع ذلك، فالتعبير عن مشاعر حميمة كالحب يرتٌب رصدّ تفاصيل برٌانية، خاصٌة وعامٌة، ومساءلةّ قيم استهلاكية، شائعة ودارجة، وهنا نجد خضر يستثمر السخرية للتعبير عن لواعج عشٌاقه، ورصد مكابداتهم الداخلية، عبر الزجٌ بهم في بيئة عصرية مؤتمتة، رغم أنه يظل، في أحيان كثيرة، تقليديا في طريقة استنطاق عوالمهم، إذ يوظف استراتيجيات غنائية مألوفة لا تتجاوز عتبات البوح والاعتراف والمناجاة، هذه هي أجواء القسم الأول المسمٌي (حصيلة الواقع)، وفيه تتكرٌر مفردات أجنبية دارجة، ومشاهد بصرية تدور في فلك العلاقات الجديدة التي فرضتها معايير التكنولوجيا الحديثة. وتبرز قصيدة (حيرة) كنموذج يلخٌص هذا المناخ، وهي تشير إلي تشكٌل خطاب جديد يفرض نبرته ومنطقه علي علاقات الحب، ويخلخل مفاهيم كثيرة يلتقطها الشاعر بحساسية لافتة: سيرسل لكِ فورا جملة قصيرة/ يحفظها منذ أكتوبر الماضي/ قصيرة كسراويل لاعبي السبعينات/ تخبركِ كذلك إنه كلما ضاقت العبارة/ أو (“)، هكذا، بأرضية تحتية/ سيذيٌلج رسالتّه عبر الياهو . نلاحظ هنا تعمٌد الشاعر استحضار عبارة النفٌري، وزجٌها في زحمة تداعيات سريعة، مباشرة، تصف حال عشق أرضي، لكنه، في الوقت ذاته، يبرز الفقر الرمزي الذي تضمره الوقفة الصوفية في الزمن الحاضر.
في قصيدة (اثنان)، يستشعر محمد خضر خطر شيوع الثقافة الرقمية، التي تهدٌد خصوصية التجربة الفردية، واصفا عاشقين هاربين، يحلمان بالأغاني، ويلبسان قمصانا قصيرة، ملونة، ويرتادان مطاعم ماكدونالدز ، لكنهما، مع ذلك، يحتاجان إلي كلٌ مثنٌي لكي يجتمعان،
يمكن القول إنٌ قصيدة محمد خضر تتوزٌع بين تصوير متهكم لبيئة راهنة، سريعة وطارئة، وبين التشكيك بمفاهيم ثقافية ومعرفية تقليدية، راسخة وغائرة، تدور في فلك الغابر والقديم، حيث صراع الأنا مع العالم، والواقع مع الرٌمز. والجزء الأول من الديوان، الذي يمتد علي مساحة ثلاثين صفحة، جاء مفعما بلحظات طريفة، صادمة، تتقنٌع ببساطة مخادعة، وتخفي وراءها تنوٌعّ اهتمامات الشاعر ورهافة ملاحظاته.
بالرغم من هذا التفاوت الجمالي بين قصيدة وأخري، يمكن القول إن محمد خضر يحقٌق حضورا شعريا لافتا في ديوانه الجديد، ويصلنا صوته جريئا مغامرا، يسلٌط الضوء علي اختلال المعايير، وتأرجح القيم، موظفا لغة مرنة تقتحم دائرة المتداول، وترصد تناقضات التجربة الداخلية، في بيئة عصرية معولمة، تتبدٌل وتتغيٌر في كلٌ لحظة.
أخبار الأدب المصرية
تعليقات
إرسال تعليق