نص «معتقدات».. براعة اللقطة وجمالية النهايات المفتوحة
كتبه : ناصر بن محمد العُمري
لمحمد خضر مشروعه الكتابي ومداوراته الأسلوبية واستراتيجياته، التي تقوم على الالتقاطات المتنوعة للأحداث والمواقف العابرة والغريبة حيناً والمهملة والمفجعة أحياناً أخرى ثم العمل على تفخيمها بالكنايات وتوسيعها، مع شغف ظاهر بتصادي الفنون في تجربته،
ولاتخلو من قدرة على إتقان يمكّنه من صوغ الحدث في مشهدية تصويرية، وهي عماد آخر لكتاباته.
التجربة لا تخلو من (المجانية) وعدم وجود غاية للكتابة -أحياناً-سوى فعل الكتابة نفسه كما ترى سوزارن برنار لكن فيما نقرأه نجد موضوعات محصنة بالتراكيب اللغوية الذكية.
في نص «معتقدات «يتوسل (خضر) البث التأملي، والغوص في قضية العقل الباطن كمخزن للخبرات والذكريات القديمة للإنسان والمعتقدات والعادات والمهارات وكل المواقف التي تحدث للإنسان في حياته. مستنجداً بقدرته على تمثيل علاقات الناس في المواقف التي تقع خارج العادي، عبر نص مخاتل تتباين فيه مواقفهم بين الضحية وبين غيرها من خلال ذات واضحة الدلالة:
«طفل عالق في سياج في الدور الرابع من عمارة».
يلعب النص على ثيمة التباين والتضاد في التعاطي مع الحادثة التي تستحيل هوية تطبع الذات بما تعتقده وتتصرف وفقه، ولا يرتسم وجودها من حيث هي علاقة إلا بمقتضى ذلك المعتقد.
فالذات العالقة (الطفل) هي ذات تبحث عن قشة تتعلق بها، وترسف تحت أغلال الخوف ويتوقف الأمل في النجاة على جودة صناعة الجوارب التي يرتديها وهي تتمزق قليلاً في القدم العالقة!
في هذا الظرف العصيب الكل من حوله غارق في التحليل واستعراض قدراتهم في (التفسير، التبرير، الفضول، الخيال، … إلخ) وكل هذا ربما هرباً من تقديم المساعدة بفعل العجز عنها ومن ثم الهروب إلى مناطق التفسير (كاميرا خفية وسوق التبريرات واللوذ بالخيال والتلكؤ عن سرعة الإنقاذ بالمشاورات حول كيفية تحديد الشقة.. والأسئلة التي تعكس الجبن عن تقديم المساعدة بتخيل أسباب مانعة:
«ماذا لو كانت شقة عائلة والرجل غائب عن المنزل؟ وهل سيمكن طرق الباب من دون مشكلات اجتماعية؟!»
يقوم الحدث على فعل مخيف تصوره مشهدية (قرب سقوط طفل من مكان شاهق)، أما نسقها فيتخذ سيناريو أقرب لروح اللقطة في السينما التي تلعب على ثيمة الأكشن وتلوذ بالمرعب عبر مقاطع متتابعة:
- «بقيت قدمه اليمنى في سياج البلكونة بينما تدلى جسمهُ بالكامل إلى الشارع».
- «يتوقف الأمل على جودة صناعة الجوارب التي يرتديها
وهي تتمزق قليلاً في القدم العالقة!».
- «الطفل يتدلى والناس تدخل من العمارة وتخرج..
وبينما هم في مشاورات عن كيفية تحديد الشقة».
هذه (المقاطع / المشاهد/ الحكاية / النصوص) تجعلنا أمام « نص سينمائي»، وهو ما أراه مناسباً للتسمية وأكثر دقة وتحريراً للمصطلح.
ما يعني أننا أما نوع من الكتابة يأخذ خصائصه من حقل السينما، وهو بهذه الخصائص ذو قيمة ثقافية إنسانية عالية، وعابر لحدود الأجناس. ما يلفت النظر في هذا النوع من الكتابة دقة الاختيار للشخوص؛ فالطفل هنا دلالة على الضعف، والتي تتضمن مساحة محتشدة بدلالة ضمنية على عدم القدرة على التصرف السليم في موقف صعب بالنظر لقلة الخبر، والتفكير الطفولي المحدود، وهشاشة الجسد. ولذلك يُضرب المثل به في هذه الصفات (ذات الطفولة) وطبيعي أن الطفل ليس الكائن الضعيف الوحيد أو الأقوى من بين بني الإنسان، لكنه الأكثر تعرضاً لمثل هذا المشهد كنتيجة طبيعية لشقاوة الأطفال؛ فالمريض والمرأة والكهل مثلاً هي كائنات ضعيفة لكنها لا تقع في هذا الموقف إلا في ظروف محددة ونادرة. والطفل كذلك يحمل دلالة حميمية إنسانياً، فالأطفال يجدون التعاطف العالي عادة، وهم رمز للوداعة والشقاوة، وهنا الطفل العالق لا يملك ما يمكِّنه من الفرار أو الثبات تجاه موقف مرعب يحتم عليه أن يتصرف ببراءة مستعيناً بمعجمه وخبراته.
وليس مصادفة أن يكون الطفل هو العامل الذي يمثل الذات في هذه النص، بحسب مصطلح جريماس، أو البطل، بحسب بروب، لأنه يواجه المأزق ويقابل التحدي الذي يصنع الحكاية، فبلا مأزق أو تحدٍ ليس هناك تحول وبالتالي لا مبرر للسردية. أما المأزق فهو السقوط المرتقب الذي انتصب عقبة تمنع الطفل من الحياة. والأمر منسجم في هذه الحدود مع نسق الحكاية التي ترمِّز بطولة الضعيف والفقير والمهمَّش والإنساني والقديم والأليف. في مقابل أضدادها (خطر السقوط هنا)، لتوليد معاني منحازة إلى معتقدات الطفل الهشة، وللترامي إلى وعي حذر في العالم وغني بدلالات الصراع والتخلي والكف عن العون وهي معانٍ دونية وواقعية.
لكن اللافت في بطولة هذا النص انشغال الشخصية المانحة والشخصية المساعدة، (الناس التي تدخل من العمارة وتخرج)، وهما عنصران أساسيان في بنية الحكايات. ومثل ذلك طمس مرحلة خروج البطل، لنقف ابتداء على المواجهة والتحدي، وهذا مؤداه واضح لحشد التركيز على ضعف البطل أمام مصيره المحتوم -السقوط-.
لا تغفل الكتابة عقلية الطفل التي تنحرف عن الطبيعي والغريزي تجاه حدثها، فالسقوط نتيجة طبيعية للطفل بعد تمزق الجوارب، وسقوط الطفل هنا وشيك، الحديث وبحث البطل عن منقذ ممن حوله أمر غريزي.
لكن النص يتحول عن الشخصية المانحة (الناس)، لتحل في محله بنية أخرى ثقافية تنبع من تعلق الطفل بأبطاله الخرافيين (سبايدرمان) فهو في انتظار الذي لن يأتي.
هكذا تستحضر نصوص محمد خضر أسئلة العدمية والعبثية، وانشغال الإنسان المعاصر بذاته وتعلقه بمعتقداته أمام موقف تنعكس فيه علاقة الضعيف بمن حوله.
وكيف تجعلنا معتقداتنا مسلوبي الإرادة، فيغدو الطفل -في موقفه- عاجزاً وضعيفاً إلا من معتقده، بدليل استنجاده بـ(أبطاله الوهميين)، في مقابل انشغال الشخصية المانحة وترددها وهامشيتها وغرقها في أسئلتها العبثية، ولم يكن من منقذ في هذا الموقف الذي أبرز فيه نص (معتقدات) مبدأ الغريزة والطبيعة وسؤالهما، لتحيله إلى سؤال تناقض أبدي، يبقى مفتوحاً دونما إجابة. وهو -والأمر كذلك- سؤال عدمي لا يملؤه إلا بحث الإنسان المستمر عن معتقد يحميه من السقوط ومن المغامرة والمجازفة وأحياناً كثيرة يصدنا حتى عن فعل إنساني.
ثم يجيء النص بنهايات مفتوحة حيث يترك مساحة لتقرير مصير هذا الطفل العالق (هل سقط؟ هل أنقذه أحد؟ هل وصلت فرقة إنقاذ لانتشاله؟).
ما يؤكد أن النهاية ليست هاجس النص، بقدر ما يأخذنا نحو نهاية نتمناها أو نقترحها -وهذا الوعي أرى فيه سحرًا لا يقاوم-،
فحين يترك القارئ النص وفي قلبه أمنية أن تنتهي تلك القصة على خير، وأن يظل تفكيره أسيرًا لشخوص وأحداث العمل الذي كان بين يديه، هذا ملمح حديث وبارع وينطوي على رغبة حثيثة لحشد طاقة إيحائية عالية كي يشوّق القارئ للمشاركة في بناء عالم الحكاية، حيث النهايات المفتوحة دوماً في دعوة للتأمل والتفكر والمشاركة.
السبت 19 ذو القعدة 1443هـ 18 يونيو 2022م – صحيفة الرياضالسعودية – الملحق الثقافي
تعليقات
إرسال تعليق