تحت سماء أخرى.

 



صالحة عبيد

في رواية الشاعر محمد خضر الأولى «السماء ليست في كل مكان» هناك تطواف شاعري وحالم في آن لذلك المقتطف من الحياة المركون خارج نطاق الزمن، حيث السماء أو الأرض التي تماهت حتى صارت سماء هنا رغم الاحتضار المبكر .. «إربه» .. المكان الضيق مساحة وموارد .. الفائض بالحكايات .. بالعذابات والذاكرة .. وإن كان للذاكرة هنا شكل ذلك النسيان في البقعة المنفية المنسية بتيهها وتائهيها .. المنطقة خارج نطاق التذكر والمتذكرين، الخارجة حتى من نطاق الطبيعة الوافرة .. لتأتي مختصرة جداً وبسيطة وجافة .. ومن هنا فإني أرى في «إربه» مساحة ركض مديد نحو وطن يزداد تقلصاً بإمداد الزمان والمكان في محيطه .. ليقبع خارجهم كما ذكرت في البداية، ومن دون تمثيل مشهدية ذلك الوطن الذي يتسع بمن وما فيه

يقول ليوبولد سينغور «نحن رجال الرقص الذين تستعيد أقدامهم القوة وهي تضرب الأرض الصلبة

ومن قول سينغور المقتطف من قصيدة تصف العلاقة القديمة بين الفلكلور والحياة والأرض التي تزداد صلابتها في اللحظة ذاتها التي تزيد من قوة الإنسان عليها كلما ارتبط بأصلها الحقيقي وشكلها البكر دون رتوش الحضارة المربكة رغم تسهيلاتها .. فهي كالإكسسوارات التي تزيح من التركيز شكله الأكبر نحو مؤثرات لا تعكس الحقيقة وتزيغ البصر.. أنتقل للشخوص في الرواية التي نراها تتفاوت في قوة الحضور بقوة ارتباطها بإربه والتأثير فيها والتفاعل معها .. فترى الكثير من الشخوص التي تلتصق بك وترسخ بخفة في آن وبقوة في مشهد آخر

أحببت جزئية التيه في «أبوعديس» بطل العمل .. واللغز المنسحب من شخصه البعيد .. حزنه القديم .. وذلك الحنين المتطفل بين حين وآخر .. الشرود نحو الذات المنكفئة على ماضٍ مبهم .. وإن تبدت بعض أوجهه في حضور شخص الابن المفاجئ الذي ما لبث أن غاب .. وتفاعلت مع تأقلمه مع تلك الأرض الغريبة بل ذهابه إلى الأبعد من التأقلم في تغيير عادات بعض قاطنيها .. وكأنني بـ «أبوعديس» أرى قطعة من آدم الأكبر في هبوطه وعمله على تلك الأرض المجهولة.

لمست في «زيانة» تلك الأنثى الأسطورة .. المضرجة بالوجع والمضطرة للهرب والتخفي والتوجس من محيطها وبنات وأبناء وطنها الذي من المفترض أن يمثل، ويا للمفارقة، ملاذها وأمانها وحمايتها .. معاناة المرأة المتكررة في كل زمان ومكان .. فرضية العار المفتعلة الظالمة .. والعقاب من دون وجه حق أو سبب وجيه. ولا أدري لماذا رأيتها تأخذني في صورتها المقيدة بالسلاسل إلى أندروميدا المرأة المسلسلة في الأسطورة اليونانية والتي حررها برشاوس من قيودها التي دامت وقتاً طويلاً ليتحول برشاوس بعدها إلى نجم في تصبح أندروميدا مجرة .. ومن هنا أنتقل للسعة في شخص زيانة .. بالماضي المليء بالعذاب، والحاضر المشتت المُلقى على الهامش، والمستقبل الواسع في فضاء شاسع مجهول

أحببت سذاجة ناصر في إيمانياته .. تلك التي ارتكز عليها ليستمر ويواصل في أرض العدم .. وروح الساحل في ميقات رغم تعنته، وذلك التوحد بين إربه كمكان والعراد ككيان وإدراك .. لكنني وددت لو تم التعمق أكثر في البعد النفسي للشخوص .. واحتجت كذلك وصفاً للشكل الخارجي لمعظمها بحيث تكتمل الصورة في مخيلتي كمتلقية

على الجانب الآخر .. وانتقالاً من منطقة الشخوص الروائية للأحداث التي أشارت إلى الزمان وجدت الأحداث تطفو بشكل غائم لتعود فتغيب، ما خلق نوعاً من الإبهام المربك قليلاً .. الإبهام الذي قد تبرره في ما بعد تلك الكاميرا المتحركة بخفة اللاشعور والتي كنا نرى نحن القراء الأحداث من وجهة نظرها أولاً ومن خلالها بعد ذلك، ومن ذلك الإبهام أو النقل السريع هو ذلك الإسقاط الرمزي لجزئية الوشم، أو أولئك الموشومون، التي بدت مهملة ليست ذات حيز كبير لتعبّر عن حال حاملي الوشم المهملين.

هذا عمل روائي بطعم الشعر ونكهته، إذ إني لمست في الفصول روح الشاعر المتمكن تتجلى بقوة .. وهو ما يجذبني لأي عمل روائي بالإجمال .. وهو صادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، بالتعاون مع نادي المدينة المنورة الأدبي في المملكة العربية السعودية.

جريدة الرؤية الاماراتية

تعليقات

الأكثر قراءة