إلى أين تمشي بنصف سعادة أيها الساكن في الغيم
إلى أين تمشي بنصف سعادة أيها الساكن في الغيم
كتب : مهدي سلمان
ماذا يريد هذا الشاعر بالضبط؟ غالباً ما أسأل نفسي حينما أقرأ قصيدة للشاعر محمد خضر، حالة من المختبر الحقيقي لقصيدة النثر يعيشها هذا الشاعر دائماً، لذلك فإن محاولة الإمساك بقصيدة خضر بين ديوان وآخر هي مسألة أحاول أن لا أضع نفسي فيها، لأني لن أستطيع وحسب، محمد خضر في ديوانه الجديد (المشي بنصف سعادة) الصادر عن دار فراديس، يحاول أن يدخل في تجربة جديدة مع قصيدته، هي تجربة تخرج من الشعرية تماماً لتدخل إليها بروح جديدة، كمن يجفّف نفسه تحت شمس الظهيرة، ليعود إلى ماء آخر لا ينتمي للبحر.
ولكني أعود لأسأل مرة أخرى.. ماذا تريد بالضبط يا خضر، اشتغال مكثف على اللغة وعلى الصورة، أم اشتغال آخر تماماً على الحالة السردية في القصيدة، ذهاب بالشعر نحو واقعه الجديد بكل مكوناته الحديثة، أم أن كل هذا لا يمثل سوى اصطدام بين الشعر كحالة (مثالية) وبين هذه المكونات كحالة (عملية)، رصد القيمة في هذا العالم الآلي والزمن التقني والرقمي والتكنولوجي، أم رفض لما يمكن أن يمثل (قيمة هرمة) في زمن مغاير تماماً يحمل في حدّ ذاته قيمه الخاصة التي تختلف باختلاف مكوناته وأدواته.
(المشي بنصف سعادة) مع محمد خضر الذي صدر له من قبل (مؤقتاً تحت غيمة) عن دار أزمنة، و(صندوق أقل من الضياع) عن دار فراديس أيضاً، سيكون مشياً صعباً خصوصاً وأنت تقف أمام غلاف أصفر فاقع تتوسطه إشارة مرورية هي عبارة عن (ولد) و(بنت) يعبران الشارع بحقيبتيهما، إنه مشي صعب لأنك تقطع معه شارعاً شعرياً لا يدرك مداخله ومخارجه إلا هو، شارع تختلط فيه الصورة المتخيلة للشاعر (المدهش) و(البليغ) و(الساحر)، بصورة يريد خضر أن يطرحها للشاعر، حيث يفقد الشعر من القيمة الشعرية السابقة التي تعتمد تلك الصفات (دهشة/ بلاغة/ سحر) ليقف على حدود مغايرة تماماً، أصدقكم القول بأني لم أتلمّس بعد معالمها.
أرى جيداً كيف أفقد خضر الشعر من مضامينه السابقة، وأرى أنه أضاف إلى شعره حالة من السردية سواء عبر (التخييل السردي) أو عبر (التذكّر السردي)، وأضاف أيضاً حالة من التجديد في المفردة عبر إلغاء كثير من المفردات (المشعرنة) واستبدالها بمفردات صادمة جداً في الحالة الشعرية العربية، حتى الحداثية منها، ولكن كل هذا لا يجعلني أرى بوضوح الصورة التي يفترضها خضر في الشعر، بالرغم من جمالية هذا النوع من الشعر الذي يطرحه، وهذا ما يجعلني أعيد مرة بعد أخرى.. ماذا تريد يا الساكن تحت الغيم من الشعر بالضبط.
الدهشة قريبة لدرجة لا تُرى
قصيدة (ماسنجري) بالتحديد – وربما (lurbak) بدرجة أخرى – تجعلني دائماً أعيد النظر مرة بعد أخرى في ماهية الدهشة، بالنسبة لي على الأقل، ماهية الدهشة لا في مستوى الصورة الشعرية أو في مستوى البنية الشكلية أو الإيقاعية أو الأسلوبية أو حتى المعاني المبتكرة كما قد يبدو، ولكن ماهية الدهشة بما هي مستوى آخر من مستويات التفكير، مستوى آخر من مستويات النظر للأشياء، ليست الدهشة هنا مفردة مرادفة للإعجاز، بل ربما تكون مفردة نقيضة له، ترفضه، لا تجعله مقوماً من مقومات الشعر، الدهشة هنا مرادفة للرؤية، للابتعاد بشكل من الأشكال أو الاقتراب بشكل آخر، من أجل وضوح (الرؤية)، ولذلك فإن خضر في هذه القصيدة يقترب من ذاته (ذواتنا، بما أننا نعيش عصره أيضاً)، ويقترب من جعل الحالة الوصفية التقريرية شعراً، شعراً ليس بما هو مغاير، بل بما هو مألوف، ولكنه غير مرئي، وبذلك يضع المألوف بصورة تجعله مرئياً بشكل شعري، أو فلنقل تجعله مرئياً وحسب، لأن خضر لا تعنيه الشعرية بما هي مفهوم مصطلح عليه، نتعارف على معناه جميعاً، فالشعرية كما أسلفنا أمر مختلف لديه، لا يريده بالشكل الذي نفهمه، بل يحاول أن يطرح بديله، وإن كان هذا البديل واضح المعالم ولكنه للآن لم يكتمل ليمثّل الصورة الكلية التي يريدها محمد خضر أو على الأقل التي أفهم أنه يريدها.
صور من المخيال
يأخذ محمد خضر في مجموعته الجديدة المشي بنصف سعادة طريقاً يحاول فيه أن يقترب من الناس من حوله، أن يرى بشكل من الأشكال، أن يكون إنساناً، يتذكّر ويستحضر ويتخيّل ما حدث أو ما لم يحدث، ويعلّق ويفسّر ويأخذ ويترك، من الناس من الأشخاص، فيحضر في قصيدته في هذه المجموعة (أصدقاء الماسنجر)، (معلمين قدامى)، (عائلة)، (شخصيات الحي) (حبيبات.. سابقات أو متخيلات)، إنه عالم مشحون بالشخوص كما لو أنه رواية وليس مجموعة شعرية، ليس لأن السرد يحضر فيه بشكل عميق وحسب، بل لأن مفهوم الشعرية يقوم في شكل من أشكاله لدى خضر على الإنسان، لا على اللغة، لذلك فإن كل هؤلاء يحضرون في هذه المجموعة الصغيرة المكونة من ٧٧ صفحة، يحضرون ليخلقوا عالماً شعرياً يبني العلاقة بين الشاعر ومكونات قصيدته من خلال ذات الشاعر لا من خلال الذوات التي تحضر في اللغة كما يحدث عادة في الشعر، فهو لا يستحضر في قصيدته (السائلة) بيتاً شعرياً من هنا، أو فكرة جميلة من هناك، لم يعد هذا يعني محمد خضر، لم يعد يعنيه أن أصفّق لقصيدته، ولأنه شاعر ماكر فإنه سيجعلني أفعل.. ثم أقول في نفسي.. حسناً ربما فهمت بعض الشيء ماذا تريد أيها الماشي بنصف سعادة، ماذا تريد من الشعر.. أقول ربما وحسب.
جريدة الأيام – مهدي سلمان
تعليقات
إرسال تعليق