محاولة لاستكشاف الذات - قراءة في : تماما كما كنت أظن

إيهاب خليفة

 صدر ديوان جديد للشاعر محمد خضر يتضمن سبعة وعشرين نصا متوهجا بالدلالات  *، ويسلط بقعة ضوء على العلاقة الجدلية بين الوجود والموجودات ، الوجود في تجريده والموجود من حيث هو تغير يترى ، حيث يحاول فض الاشتباك بين الخلط العارم بين جوهر الوجود و بين الحالة الظاهرة والدائمة التغيّر للحقيقة غير المتغيّرة للوجود ! تبدأ نصوص الديوان بتفتح افتراضي للوعي ، فالطفولة وتفتح الحواس لقراءة العالم يمثلان الحجر الأول لتنامي الوعي بالذات التي تتلبسها طقوس عشائرية في ذلك الميلاد المحفوف بالمخاطر ، الميلاد الجسدي يسبق الوعي الحقيقي بجوهر الحياة وماهية الوجود ، غير أن المدهش أن الذات تولد بوعي ضدي يجابه رتابة العشيرة ، يجابهها بعينين مدهوشتين تشي بالذات المغايرة ، و قد عبرت عن ذلك المعنى قصيدة ” ذهول ”  التي تتصدر الديوان :

ولدت في بلدة أقصى الجنوب

نفس العام الذي بدأ فيه البث التلفزيوني في

بلدتنا

العام ال انتهت به حروب صغيرة

واندلعت أخرى

وانا مذهول من كل شيء  “

إنه ميلاد ليس كما رأته العائلة /الأعراف السائدة / العشيرة / الآخر / الجاهزية التي تنمط كل شيء ، ففي الوقت الذي تظلل السعادة العائلة يتواشج مع ميلاد الشاعر ميلاد منبر إعلامي معبر عن النظام ، وكذا عجز الإنسان عن تفادي تراجيديا المصائر بسبب نشوب حرب ! ، هذا ميلاد فارق إذن يتعذب هذا الوعي المكتمل للشاعر بين اللغة المعلنة  والواقع المخزي ، بين رسالة يبثها الهواء  قد تكون مخاتلة والمصائر المحتدمة علاوة على اسم يسبق مسماه ، ويجره لِهُوية ماضوية قد يكون فيها مصادرة على المطلوب ، ثمة ماهية تبحث عنها الذات الشاعرة ، هوية فردية تؤسسها هي بنفسها لنفسها  ، لكنها تتعثر بين المسافات الشاسعة التي تجعل المفهوم والماصدق غريبين عن بعضهما ،إن الشاعر يومئ إلى بحث مبدئي عن جوهره  :

قالت واحدة لأمي سموه  (بكر )

 أو (  جمعة )  أو ( سعد )

وكان صراخي رفضا بحتا

لكن العائلة اجتمعوا في وقت مبكر

ليفسروا روية جدتي

أريد أن يكون له نفس اسمي )

لذا كان تفسير الحلم

أن يسموني محمدا

ولا زلت منذ ذلك اليوم

مذهولا من كل شيء .

الذات هنا تمتلك رهافة تجاه أحداث صغرى تكاد لا تستوقف أحدا ، وتعتبر تلك الأحداث أحداثا مفصلية ، تعيد ترجمة الذات ، لتتوافق مع هواجسها وطموحاتها ، مع خساراتها وانتصارتها العابرة ، حتى إن حدثا ضئيلا كترك نافذة مفتوحة ذات صباح يقلب عالم الشاعر رأسا على عقب !! ، ففي ” صورة طبق الأصل ”  لا يرسم الشاعر بورتريها لتقاسيم ذاته كما يبصرها ، بل يستعيض عن ذلك برسم صورة عابرة لشقته المتوحدة معه في وحدته وضجره ، بل مع ثلاجة جانبية يؤاخي ملمسها في آخر الصيف ليجعله إطارا لصورة مختارة ، يصدم بها حواسه  كلما وقعت عيناه على بابها ، إنه يريد أن يجعل الصورة – الصورة التي يختارها ، تغذي حواسه وتلهمه غذاء آخر :

أقضي أياما طويلة

وحيدا وبلا ضجر أكيد

أفتح الباب صباحا

لأعود عند الظهيرة

أجد أني نسيت النافذة مفتوحة

لكن سرعان ما أغلق الباب

وأبتسم للمشهد كاملا

هناك صورة تعودت ان أراها كل يوم

كنت ألصقتها على باب الثلاجة في أواخر

الصيف الماضي

وفي الوقت الذي يسرد فيه الشاعر أسباب التداعي الكاملة لسقوط الصورة من الريح العتية ، والنوافذ المفتوحة ، وتضاؤل بنايته نسبيا عند المقارنة بالبنايات الأخرى ، وكذا انهيار الصمغ الذي ” لم يكن مؤهلا للصمود “على حد قوله ، لا يذكر لنا كنه هذه الصورة بتاتا ، لماذا ؟! ولا نجد سوى العنوان ليؤكد لنا أنها صورته ، لكنه لا يملك أن يدلل على أنها صورته ، هذه الصورة المؤهلة للانهيار هي رمز مواز ٍ لحياته ومع تدحرجها ، لا يلتف لها أيضا لإدراكه أنها عابرة كطيف ، بل يتوجه بتجرد تام لتجربة أخرى أكثر إثارة مندفعا بتشككه في أن السقوط مرتبط بصورته الشخصية هو فقط !! ، فيستبدل بفراغه صورته صورة للمنتخب تمثل الجماعة في التفافه المزعوم حول قضايا أكثر دونية ، وأحيانا حين يحن لصورته يعلق صورة بريخت الذي بنظري يشبه مستقبلا استشرافيا لذاته الشاعرة في مرحلة قادمة ، فبريخت

وكما نعلم اضطر مغادرة وطنه ألمانيا مرورا بعدة دول  ثم بدأ نضاله متساوقا مع منفاه ، ضد النازية ، لكن صورة بريخت أيضا تتداعي مثل كل الصور بسبب النوافذ المفتوحة التي تتشكك في كل شيء ، و تتصادم مع الرياح العتية التي تطيح بلا هوادة بالمصائر التي يحاول الشاعر التحديق فيها مقررة حرمانه من ملامسه كنه الوجود :

سأعلق صورة أخرى

ستلعب ذات الدور

وبأهلية أكثر

ستكون صورة للمنتخب

في كأس العالم

أو صورة لبريخت

أو أحد أغلفة مجلة people

أو …

أو …

أو …

لكنها حتما لكن تكون الصورة الأولى

التي ستسقط أرضا

بسبب نافذة مفتوحة !!

إن ديوان ” تماما كما كنت أظن ” محتشد بتساؤلات تتعارك مع ذواتنا من جهات عدة ، لكنه في طرحه لتلك التساؤلات يعلن عن مقوله فلسفية جديدة في رأيي تضاد الكوجيتو الديكارتي : ” أنا أفكر إذن أنا موجود ” أو ” أنا أشك إذن أنا موجود ”  بينما خضر يستدل على انمحاء وجود الإنسان المعاصر لعجز عن إيجاد إجابات عن جل تساؤلاته ،  إنه يدشن مقولة جديدة وهي ” كلما أفكر أزداد يقينا بأنني غير موجود لأنني غير متحقق ، لأن  الحقائق كلها تعارض وجودي وتدفعني باتجاه السقوط !!

ديوان محمد خضر الغامدي هو بارقة أمل تتشبث بها قصيدة النثر العربية ، لتنجو من استنساخها المشين ، ونمطيتها الفجة التي صارت حاجزا بينها وبين متعاطيها من النقاد والجمهور وهو نموذج يرتقي بثيمة التفاصيل اليومية ولا يتردى في سطحية الاجترار.

     إيهاب خليفة شاعر من مصر

      ____________________

    ·

    ·       تعرضت في قراءتي لنصين فقط من نصوص الديوان ، نظرا لأنهما يكشفان بوضوح بعض سمات العالم الشعري لدي الغامدي ،  ولأن الديوان يحتاج إلى قراءات عدة ، وهذه الورقة النقدية لا تفي بقيمته الشعرية .

جريدة اليوم

تعليقات

الأكثر قراءة